التنمية أولاً- قراءة في التجارب العالمية في ظلّ التحولات الراهنة

المؤلف: نبيل البكيري09.14.2025
التنمية أولاً- قراءة في التجارب العالمية في ظلّ التحولات الراهنة

لطالما شكلت المعضلة الجدلية حول أسبقية التنمية أم الديمقراطية قضية جوهرية ومحورية على مدار العقود الخمسة الماضية، مستقطبة اهتمام جمهرة واسعة من المفكرين، والكتاب، والباحثين، والقادة السياسيين، والزعماء المؤثرين. ولا يزال هذا السؤال مطروحًا بقوة، مدعومًا بشواهد جلية تؤكد مدى أهميته وراهنيته.

إن طرح فكرة إعطاء الأولوية للتنمية على الديمقراطية لم يكن ضربًا من العبث، بل جاء بمثابة استجابة لتحديات ملموسة وواقعية نشأت في أعقاب حقبة الاستعمار، خاصة في منطقة شرق آسيا. ففي هذه البقعة من العالم، ترسخت قناعة راسخة بأهمية التنمية قبل الديمقراطية في صميم الواقع السياسي والاجتماعي، وذلك بفضل الرؤى الثاقبة لثلاثة من الزعماء الآسيويين البارزين: لي كوان يو من سنغافورة، ومهاتير محمد من ماليزيا، والزعيم الكوري الجنوبي بارك تشونغ هي، الذي حكم في الفترة ما بين 1961 و1979، حيث اعتقد هؤلاء القادة، كما أسلافهم، بأن التنمية والإصلاحات الاقتصادية يجب أن تسبق أي نقاش حول الديمقراطية.

في السياق الأكاديمي، ظلت جدلية "التنمية قبل الديمقراطية" مسألة نسبية تخضع لنقاش مستفيض في مختلف الأطر والنقاشات، وغالبًا ما ارتبطت بمفهوم الحتمية الليبرالية الاقتصادية، التي تعتبر الديمقراطية وجهها السياسي. بيد أن هذه الحتمية الفوكويامية بدأت تتخذ مسارًا مغايرًا في ظل المؤشرات الإيجابية للتقدم الصيني والآسيوي بشكل عام، في حين يشهد الاقتصاد الغربي تراجعًا ملحوظًا.

وبناءً على ذلك، ارتبط سؤال "التنمية أولاً" في المجال الأكاديمي بنظريات مثل "نظرية التحديث"، التي ترى أن التنمية الاقتصادية تقود تدريجيًا إلى الديمقراطية. وفي المقابل، هناك وجهات نظر أخرى تؤكد أن الديمقراطية هي الأساس لتحقيق تنمية مستدامة. إلا أن مؤشرات فشل هذا الطرح تبدو أكثر وضوحًا في الوقت الراهن، في ظل التجارب الديمقراطية العديدة في العالم الثالث التي أدخلت مجتمعاتها في سلسلة لا تنتهي من الأزمات والصراعات السياسية، ناهيك عن انكشاف الموقف الغربي المتناقض من قضية الديمقراطية نفسها.

من هذا المنطلق، أصبحت العودة إلى مناقشة هذه المقولة ضرورة ملحة في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية والعالمية المتسارعة، حيث برزت دلائل قوية تؤيد أولوية التنمية، وفي مقدمتها التجربة الصينية التي تقدم اليوم أقوى دعم لهذه الفكرة.

وبغض النظر عن موقف الصين من الديمقراطية، فإن تجربتها الخاصة تظل فريدة من نوعها، مما يؤكد أن الديمقراطية ليست قالبًا جامدًا يتم استعارته، بل هي عبارة عن تجارب متعددة تصوغ كل أمة صيغتها الخاصة.

وبالعودة إلى التجربتين الكورية والسنغافورية، وهما تجربتان جديرتان بالدراسة المتأنية، يتبين لنا مدى انطباق مقولة "التنمية قبل الديمقراطية" عليهما إلى حد بعيد. فقد ركز الزعيم الكوري، الذي وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري، على التنمية الاقتصادية والتصنيع السريع كأولوية قصوى تسبق أي حديث عن الإصلاحات الديمقراطية. وقد أدى ذلك إلى قفزة نوعية لكوريا الجنوبية، لتتبوأ المرتبة الثانية عشرة بين أكبر عشرين اقتصادًا في العالم اليوم، والرابعة على مستوى آسيا بعد الصين واليابان وإندونيسيا. بينما تحتل سنغافورة المرتبة الثامنة والعشرين عالميًا، والسادسة من حيث نصيب الفرد من الناتج القومي.

وتعيد المؤشرات الدالة على التراجع الاقتصادي الغربي – على الرغم من تقدمه على الصعيدين الديمقراطي والتشريعي – في مواجهة الصعود الاقتصادي الصيني، الذي يتميز بانفتاح اقتصادي وانغلاق سياسي، الجدل المحتدم حول التنمية والديمقراطية وأيهما يجب أن يسبق الآخر. فالتقدم التنموي الصيني أصبح لافتًا للنظر، وانعكس إيجابًا على مستوى رفاهية المجتمع وجودة الخدمات الصحية والتعليمية، مع الإبقاء على قبضة مشددة على الحقوق والحريات السياسية.

أما في عالمنا العربي، ورغم أن الأنظمة التي أعقبت حقبة الاستعمار قد رفعت شعار "التنمية أولاً"، فإنه لم يتحقق على أرض الواقع سوى بعض مظاهر التنمية المحدودة، كما في التجربتين البعثية في العراق، والناصرية في مصر. إلا أن الحروب الطويلة والمتعددة التي خاضها هذان النظامان قد أعاقت استمرار هاتين التجربتين، وكذلك تجارب عربية أخرى.

أما الأنظمة التي خلفت نظامي صدام وناصر في بغداد والقاهرة، فقد حققت تراجعًا أعمق على جميع الأصعدة، تحت مظلة الديمقراطية نفسها، وهي تعتبر من أسوأ صور الديمقراطية في العالم. وقد تفاقمت هذه الحالة في معظم الأنظمة الجمهورية العربية، مما أدى إلى اندلاع ثورات الربيع العربي، التي تم إجهاضها قبل عقد من الزمان.

ولا تزال تداعيات تلك الثورات ماثلة حتى اللحظة، حيث لا تنمية ولا ديمقراطية، وتشكلت صورة قاتمة من الأنظمة الهشة المفككة. بل إن مجتمعات ما بعد الربيع العربي لا تزال غارقة في حروب طاحنة لا تنتهي، وتعيش حالة من الانقسام والصراعات المستمرة.

إلا أن هناك تجربة تنموية عربية لافتة، وهي تجربة دول الخليج العربي، وما تقدمه من نموذج تنموي جيد. غير أن الكثير من إنجازاتها يعود إلى اقتصاد ريعي ووفرة نفطية أكثر منه إلى خطط واستراتيجيات تخلق الفرص.

ويتمثل التحدي الأكبر اليوم في تحويل هذا الريع إلى تنمية حقيقية لما بعد النفط، تقوم على تنمية الإنسان المنتج. مع العلم أن هذه المجتمعات لا تعيش جدلية الأولوية بين التنمية والديمقراطية، لكونها ملكيات ذات عقد اجتماعي خاص لا يثير إشكالية في هذا الجانب.

في المقابل، تظهر في أفريقيا – خاصة في شرقها وغربها، مثل إثيوبيا وكينيا ورواندا والسنغال – نزعة قوية للتحرر من الإملاءات النيوليبرالية الغربية، التي تتضمن مفاهيم العلمانية والديمقراطية والحقوق والحريات، والتي تستخدم كأدوات للابتزاز والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها.

ومع انكسار الهيمنة الغربية المطلقة في أفريقيا، بفضل الصعود الاقتصادي الصيني، بدأت هذه المجتمعات تقدم مقاربات واقعية تتناسب مع ظروفها فيما يتعلق بسؤال "التنمية أولاً"، كما هو الحال في رواندا وإثيوبيا. وهو ما يعزز مقولة أن لكل مجتمع تجربته الخاصة به، والتي ليس بالضرورة أن تكون نسخة طبق الأصل من المجتمعات الغربية.

وفي هذا السياق، أتذكر حوارًا دار بيني وبين بروفيسور صيني متخصص في الدراسات العربية، التقيته على هامش مؤتمر عقد في الإسكندرية عام 2012. ففي أعقاب نقاش مستفيض بيننا، بدأ بحديثي عن وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر، اللذين كانا حديث الساعة آنذاك بسبب ثورات الربيع العربي.

سألته يومها: لماذا تقيد الصين وسائل التواصل الاجتماعي ولا تسمح بها؟

فأجاب ضاحكًا: وهل لدى الصينيين فائض من الوقت لإضاعته في ثرثرات عدمية لا طائل منها؟

فقلت: ولكن هذه الوسائل أصبحت اليوم جزءًا لا يتجزأ من مقتضيات العصر ولا يمكن الاستغناء عنها.

فقال: نحن في الصين لدينا مشاكل تختلف عن مشاكلكم ومشاكل الغرب، ولنا خصوصياتنا وتحدياتنا التي نسعى جاهدين لحلها بأنفسنا، ولا ننتظر من أحد أن يحلها لنا. وفي مقدمة هذه المشاكل، تأتي التنمية التي ينتظرها المواطن الصيني بفارغ الصبر لحل معضلة السكن والتعليم والرعاية الصحية، وهي المشاكل التي سبق للغرب أن حلها لمواطنيه، وأصبح لديهم فائض من الوقت لإضاعته في وسائل التواصل الاجتماعي. وكذلك أنتم العرب لم تبدؤوا بالتنمية، وبالتالي لن تلحقوا بالديمقراطية.

ختامًا، يمكننا القول إن الكثير من المسلمات والبديهيات التي طُرحت في السابق تستلزم اليوم إعادة النظر فيها وإعادة تعريفها من جديد – كالديمقراطية والليبرالية وكل ما يتعلق بهما من شعارات – في ضوء ما نشهده اليوم من شرق آسيوي مزدهر يتقدم بخطى ثابتة دون الحاجة إلى شعارات جوفاء، في مواجهة غرب مخادع يرفع شعارات براقة ولكنه يتنصل منها ويتنكر لها مع تراجعه الاقتصادي الملحوظ.

نحن أمام تجارب حققت تقدمًا ملحوظًا بدون ديمقراطية ولا ليبرالية، وهما المفهومان اللذان كان الغرب يسوقهما كشرطين لا غنى عنهما لتحقيق التنمية والرفاهية. فإذا بهذه الحتمية تتكسر أمام شرق يتقدم ويزدهر من دونهما.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة